صور عبر التاريخ

تنتمي صور المدينة البحرية اللبنانية، إلى مجموعة من كبريات مدن البحر الابيض المتوسط الناشطة في العصور القديمة. تتميز عن سائر المدن من حيث الدور الذي لعبته منذ أواخر عصر البرونز الحديث حتى نهاية الحقبة الفارسية، وتأتي أهميتها من ناحية سيطرتها على التجارة البحرية وانشائها أساطيل تجارية حول المتوسط ونشر الحضارة في العالم القديم.واقع صور الحالي في جنوب لبنان، حتى منتصف القرن العشرين يعتريه تناقض، كسائر المدن القديمة، الا وهو التضاد ما بين وفرة المصادر المكتوبة وغياب البقايا الأثرية. وعلى الرغم من مكانتها القديمة، وأهميتها التاريخية والنصوص العديدة التي تذكر وجودها منذ الألفية الثانية قبل الميلاد حتى نهاية الحروب الصليبية، فهي ليست متواجدة كدلائل أثرية .

فبالرغم من نقص المعلومات عنها في هذه الفترة من خلال التنقيبات تبقى أغلب المعلومات مستمدة من كتابات المؤرخين والنصوص القديمة. وقد آسف الرحالة من فقدان معالمها وندرة موجوداتها التي سطى عليها الباحثون عن الكنوز.
أطلق الصوريون على مدينتهم اسم “صـُر SR” الذي يمكن إرجاعه الى الأصل “طر” والذي يعني في أكثر اللهجات السامية الصوان او الحجر الحاد، دالا ً بذلك على الطبيعة الصخرية القاسية التي بنيت عليها المدينة، فصور تعني بالفينيقية الصخرة .
وحسب أنيس فريحة فإن صور في النقوش الفينيقية (صر) وفي رسائل تل العمارنة sur-ri وفي النقوش الآشورية surru ، والاسم في الأصل آرامي sur = الصخر .

تعتبر صور وجوارها من أغنى المناطق بمواقع ما قبل التاريخ وعددها ما يقارب ثلاثون موقعاً وأكثر من مختلف العصور القديمة، وهو ما تؤكده التنقيبات التي جرت سنة 1974، وهي منطقة تدخل ضمن ما يسميها علماء ما قبل التاريخ بالجليل الأعلى. وبالرغم من ذلك، لم يتم التنقيب في أرجائها لإكتشافها. فهي مسكونة من ما يقارب المليون سنة. من الممكن تلخيص المكتشفات بهذه المرحلة بأربع مراحل:
– الأولى تجلت بإكتشافات الرحالة أمثال Lortet منذ أواخر القرن التاسع عشر ولاسيما في حناويه. وتدل الادوات التي عثر عليها في هذه المنطقة ، أنها ترجع إلى العصر الحجري القديم.
– أما الثانية، فكانت من أعمال الآباء اليسوعيين في عين إبل، تحديداً مدرسة مار يوسف، في منتصف القرن العشرين، والتي كشف فيها عن آثار من العصر النيوليتي والكالكوليتي.
– المرحلة الثالثة، كانت نتائج أعمال P. Sanlaville، في رأس البياضة ومشاويش، خلال سنة 1960، وتعود إلى العصر الحجري الوسيط. كما أعمال المسح الأثري الذي قامت به البعثة اليابانية ما بين 1967- 1968، حيث كشف عن مواقع في مسيل، عيتا الظط، واعادة الكشف عن مغارة العبد والتي تعود إلى العصر الحجري الأعلى.

– المرحلة الرابعة، وهي المسوح التي جرت ما بين سنة 2000 و2002، بإشراف بعثة يابانية، التي عثرت على أدوات حجرية من مختلف العصور .اول ذكر لمدينة صور كان في أول الالف الثاني ق.م. ثم تذكر في القرن الخامس عشر ق.م. في الوثائق المصرية والآشورية. ويبدو انها كانت خاضعة آنذاك للنفوذ المصري حوالي سنة 1580 ق.م. ويظهر من خلال رسائل تل العمارنة (1375- 1358 ق.م ) إلى أن مملكة صور كانت تابعة لمصر ولكن ذلك لاينفي أن المدينة كانت مزدهرة .ولكن وفق رواية المؤرخ اليوناني هيرودوتس Herodote، الذي زارها في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد تأسست هذه المدينة حوالي سنة 2750 ق.م.، وهي من المدن الكنعانية المهمة. بيد أن المعلومات المتوفرة لدينا لاترقى إلى أكثر من الألف الثاني، فلم يرد اسم صور للمرة الأولى إلا في نصوص اللعنات المصرية من القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وفيها وردت عبارة صور و أوشو، مقابلة لصور الجزيرة وصور البرية.

ابتدأت فترة النفوذ المصري على الساحل الشرقي للبحر المتوسط (الساحل الكنعاني- الفينيقي) مع بداية الأسرة السادسة، إلا أنها تخلصت من السيطرة المصرية، أثناء حكم ملوك الرعاة الهكسوس. مما حقق استقلالاً للمدن الكنعانية.
أما عصرها الذهبي فإن مدينة صور لم تبلغه الا في غضون الألف الأول قبل الميلاد، أي الفترة الواقعة بين عامي 1000 – 500 ق م ، حيث بلغت التجارة الصورية فيها أقصى ذروتها وبلغ التوسع أقصى مداه . فتجاوزت حدودها الضيقة بفضل اقدام تجارها وبحارتها الذين جابوا المتوسط ووصلوا الى سواحل الأطلسي، وأسسوا المستعمرات والمحطات التجارية.

هناك معلومات تفيد بأن مدينة (صور) الفينيقية على السواحل اللبنانية، لعبت دوراً بارزاً منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد في تنظيم هجرة الفينيقيين الى شمال إفريقيا، وبشكل خاص الى تونس، وأن (صور) تعتبر الأم المباشرة لمدينة (قرطاج) حوالي العام 815 ق.م .فأزدهرت وأثمرت بفضل منتوجات مستعمراتها كما بفضل صناعاتها المحلية، التي من بينها صناعة الزجاج الشفاف وصناعة الأرجوان . بيد أن التجار الصوريين لم يكتفوا بنشر بضائعهم وسلعهم، بل تخطوها إلى نشر حضارتهم وإليهم يعود الفضل في إيصال الأبجدية الفينيقية إلى الإغريق.

لم يكن لأشور ان تصبح امبراطورية كبيرة الا اذا حصلت على منافذ بحرية ولكن لم تستطع ان تخضع مدينتي صور وصيدا واقتصرت الحملات على فرض الجزية فقط . لذا تمسكت صور باستقلالها، وانضمت عام 672 إلى طهرقة ملك مصر وهو عدو أشور راجيةً صيانة استقلالها. مما شكل لها عداوة سياسية، فكانت أولى مهمات اشور بانيبال ملك اشور 725 -669 ق م حصار صور عام 668 ق م ولكنه عجز عن اخذ المدينة لحصانة موقعها فغزا الساحل وعقد صلحاً مقروناً بجزية.
بيد ان ازدهار صور لم يلبث ان جلب لها المتاعب. ففي القرن السادس قبل الميلاد حاول الملك الكلداني نبوخذ نصر احتلال المدينة، غير أن أسوارها المنيعة منعته من ذلك، فحاصرها مدة ثلاث عشرة سنة (585 – 572 ق م) وفي هذا العصر اختارت صور لنفسها النظام الجمهوري برئاسة قاض يلقب ب “الشوفيت” .

غير ان ما عصي على الكلدانيين لم يوقف الزحف المقدوني، ففي عام 332 ق.م قام “الاسكندر الكبير” بمحاصرة مدينة صور مدة سبعة اشهر بسبب عدم خضوعها له على غرار المدن الفينيقية الأخرى. ولما كان المقدوني يرغب في احتلال مصر ولم يكن باستطاعته من الناحية الإستراتيجية، أن يترك خلفه مدينة مقاومة، تملك واحدا ً من أعظم المرافئ العاملة لصالح الفرس، تهدد مشروعه من خلال قطع الإمدادات البحرية والبرية عن جيوشه، فقد عمد الى تدمير المدينة البرية وردم المضيق الذي يفصلها عن جزئها البحري، لينشئ بذلك برزخا ً يمكن جيوشه من الوصول اليه برا ً واحتلاله. ويروى ان غيظ الاسكندر امام المقاومة الصورية وأمام الخسائر التي تكبدها دفع بالمقدوني الى تدمير نصف المدينة البحرية وقتل رجالها وسبي نسائها وأطفالها. أما جسر الاسكندر فلم يهدمه الزمن بل زيد إليه بالتدريج طبقات رملية ربطت بين الجزيرة والأرض بصفة نهائية.

مع سقوط بابل خضعت المدن الفينيقية لحكم الفرس. فنالت صور قسطاً من التدهور فانفصلت عنها قرطاجة سياسياً. إلى ان نشبت الحروب الميدية بين الفرس واليونان، فقام ملك قبرص افاجوراس Evagoros سنة 392 بالهجوم على فينيقيا حيث استسلمت صور. والجدير بالذكر ان صور كانت اول من سكت نقود في اوائل القرن الخامس مما يدل على ضعف الدولة الفارسية وسيادة مدينة صور .سمحت التنقيبات التي قام بها المير موريس شهاب، المدير العام للآثار، ما بين سنة 1946 و1975، بالعثور على لقى وعمائر تعود إلى فترة حكم الإسكندر، سنة 332 ق.م. وحتى دمارها على يد المماليك سنة 1291. هذه الفترة الممتدة، قسمها علماء الآثار إلى مرحلتين: العصور القديمة Antiquité وتضم الفترة الهيلينستية والرومانية وما بعد البيزنطية؛ العصور الوسطى Moyen Age وتضم الفترة الاسلامية ثم حقبة الافرنج. في العصور القديمة، كانت صور في يد الإغريق وخاضعة للسيطرة الرومانية وبقيت لها مكانة مميزة. منحت لقب الحاضرة، اي محور يجمع عدداً من مدن الجوار تحت امرة الامبراطور الروماني. كما منحت الحق بسك العملة الفضية والبرونزية، وكانت من أهم محترفات الشرق. هي عاصمة سوريا الفينيقية في عهد سبتيموس سيفيروس، والتي امتدت حتى تدمر واستمرت كذلك طوال الفترة البيزنطية حتى الفتح الإسلامي. فهي المدينة التي تميزت بكل الميادين: الصناعة والحرف، التجارة، الثقافة، المباني الضخمة رغم منافسة باقي المدن.

واقع مدينة صور خلال الفترة الاسلامية كان اقل ازدهاراً عما سبق ذكره في العصور السابقة. ولكن مع الفترة الفاطمية، اصبحت صلة وصل ما بين الساحل الكنعاني ومصر وفتح امامها البحر الريادة في تصدير منتجاتها الحرفية. ولم يقتصر مرفأها على التجارة وانما تعداه ليصبح مرفأً للحروب ما بين سلجوقيي سوريا وفاطميي القاهرة. خلال حقبة الفرنجة، دخلت صور في منافسة مع عكا، التي تعتبر المرفأ الرئيسي للقدس (اورشاليم) وما له من علاقات مع ايطاليا. وخلال القرن الثاني عشر، سمحت صور المدينة الاقتصادية والعسكرية لقوى خارجية بالتحكم بجزء من الساحل، وتحت سيطرة الفرنجة لعبت دوراً سياسياً- دينياً لم يكن موجوداً سابقاً.وظلت المدينة تحت السيطرة الصليبية حتى عام 1291 م. حين استولى عليها المماليك. مما خلف دمارها. وفي بدايات القرن السادس عشر، دخلت صور كباقي مدن المنطقة في فلك السيطرة العثمانية وبقيت على هذه الحال الى ان أصبحت جزءا ً من دولة لبنان الكبير غداة الحرب الكونية الاولى.

د. مهى المصري

أستاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الانسانية
رئيسة قسم الفنون والآثار الفرع الخامس
عضو في مركز الأبحاث في الجامعة اللبنانية